العقل الغنائمي بقلم : د. عبد القادر فيلالي


العقل الغنائمي بقلم : د. عبد القادر فيلالي

الفينومينولوجيا

 

نبدأ نصنا هذا بحدث تاريخي بالغ الأهمية وقع سنة 1836 بالمكسيك حينما عمد أحد الأعيان إلي بيع أرض للولايات المتحدة الأمريكية آنذاك. هذه الأرض والتي هي أكبر من مساحة فرنسا بنسبة 10 ٪ هي ولاية تكساس. هذا الشخص المكسيكي يدعى “لوبيز دي سانتا آنا” من الأعيان الكبار. يطلق لقب الأعيان في دول أمريكا اللاتينية تحت مسمى ” Caudillo” والظاهرة تدعى ” Caudillisomo”. يندرج إذا بيع أرض مكسيكية إلى أمريكا بالسلوك الغنائمي.


من الضروري توضيح الفرق بين خطرين يهددان بناء الدول والمجتمعات: العقل الغنائمي والعقلية الريعية. هذه الأخيرة أي العقلية الريعية مرتبطة بالإقتصاد السياسي لمجتمع ما، لبلد ما. الميزة الوحيدة لإقتصاد الريع هو أنه تدفق الدخل المتراكم دون جهد مبذول و دخل غير متعوب عنه ، حيث ُتوزع الإرادات غير مأهولة بالحاجة إلى فرض ضرائب على القطاعات الإقتصادية المنتجة وبالتالي فالدولة الريعية تستخدم سياسة إنفاق دون الإهتمام باقتصاد متنوع أو تشكيل برامج متماسكة للتنمية الإقتصادية وهذا ما يجعل دولة الريع عائقا أمام فرص الإنعتاق بما يسمى “ديموقراطية”. يمكن أن نُحيله مثلا على من يستولي على قطعة أرض للدولة ويحولها تجزئة سكنية مثلا.


لم يتم بذل أي مجهود أو عمل وإنما نتاج “جادت” به الطبيعة. وأخطر أنواع الريع تلك المرتبطة باستنزاف أملاك ومدخرات الأرض من موارد طاقية ومواد أولية، وجعلها مرتعا وتوريثها للأحفاد والحاشية من نفط، ورمال، وسمك، ومحميات وتعاونيات،…ينتج عن هكذا نمط إقتصادي خلق أفرادا داخل المجتمع يمكن تسميتهم “الزبناء” عوض “مواطنين”. فالزبون يأتي ويتم منحه فضلات من إقتصاد الريع. بعبارة أخرى لا توجد مواطنة في ظل إقتصاد الريع. على العكس من ذلك فالإقتصاد الضريبي والتوسع المستدام وهو النموذج الذي يوجد بالغرب حيث تساوي الضرائب التمثيلية السياسية، فتحضر فيه المواطنة ويغيب الزبون.


العقل الغنائمي هو سلوك أكثر تدميرا و يؤدي إلى تآكل المجتمع ويشكك في متانة العقد الإجتماعي. الشره الغنائمي يحصد ما في طريقه. يتم تلخيصه في إنتهاز واستنزاف ما تجود به الفرص من أجل إغتناء سريع. مثلا كراسي البلديات والجماعات القروية بشكل خاص تعبران عن غنائم وأبقار حلوب تم تسجيلها في رسم عقاري وهمي وتم إقناع الجميع أنه لا مناص من فلان أو ابن فلان في أهلية الكراسي وهنا يكمن خطرها-على أساس أنها شرعية ، وإيهام العموم أن لا مناص منها لأنها قدر مقدر علينا.


إن أعراض العقل الغنائمي تبدأ بالسلوك الذي يتبنى قاعدة “أنا وبعدي الطوفان”. هذه الأعراض لها تمظهرات في مساراتنا اليومية، حينما لا تجد موظفا في مكتبه، حينما يتم إنهاك معدات البلديات في مآرب شخصية، حينما يفضل نادل بالمقهى زبناء عن آخرين، حينما يتم بيع مواد المطاعم المدرسية في غياهب الليل، حينما يفتح الطبيب العمومي بابا خلفيا للفحص فتتحول مرافق الدولة ومؤسساتها مرتعا غنائميا.


فتجد حارسا مثلا في إحدى المديريات يملك ما لا يملكه مهندس بذات الإدارة هذا بطبيعة الحال دون أن نغفل العابثين من المسؤولين بمقدرات البلد…. وتكثر الأعراض ويصعب العلاج. فتتحول مثلا الإديولوجية إلى غنيمة حيث تنتعش اللغة التي تلُفُّ خطابا ما. وبدورهم يُورث المتربصون بالغنائم الإديولوجية لذويهم ومعارفهم. فتتحول المبادىء التي تدافع عن الفئات الهشة غنيمة في يد حفنة من الأشخاص أوهموا فئات عريضة من المجتمع أن سبب وضع ما يكمن في الطرف الآخر كقصة الراعي الذي يُوهم الماشية أن الذئب متربص بهم لكنه في النهاية فالراعي هو الذي ينتقض عليهم. في ظل هذا التوصيف تتسع بؤر الغنائم فتعكف مثلا مواقع إعلامية إلكترونية لجعل رسالتها عبارة عن غنائم يصفون فيها حسابات تتداخل فيها الغنيمة الإديولوجية مع غنيمة العالم الإفتراضي.


ونجد أنفسنا أمام مولودين جديدين يولدهما العقل الغنائمي ألا وهما السلوك العينوي والسلوك الوجهائي.


وجب التدقيق بين هذين السلوكين اللذان قد يتداخلان فيما بعضهما وتصعب عملية الفصل بينهما فالسلوك العينوي (من الأعيان) والسلوك الوجائهي ( من الوجاهة السياسية) يتجسد الفرق في كون ظاهرة الأعيان مرتبطة بمن لديه صولة مال وجاه بغض النظر عن مصادرهما ثم الوجاهة السياسية وهي دقيقة جدا إذ تختلط بالسلوك العينوي لكن ما يميزها هي كونها وجاهة سياسية مرتبطة ب”كاريزما” شخص وجيه سياسيا حتى وإن يجهل مكان التوقيع في الوثائق.


نرى حدة العقل الغنائمي مثلا ترتفع حينما يهتم الأعيان بالموعد إنتخابي. ماهي الميكانيزمات التي تمكن ظاهرة الأعيان من التفاوض وفرض نفسها؟ إلى غير ذلك من أسئلة تصب جلها في خانة واحدة ألا وهي أن الأعيان خطر على المجتمعات التي تحلم بالغد المشرق، لأنهم يختزلون الأحلام في دائرتهم.


العقل الغنائمي ليس حكرا على بلدان الجنوب. مثلا التوظيف في الحكومة الفدرالية بكندا يخضع لزبونية غريبة تشتغل تحت يافطة ” ليس المهم ماذا تعرف ولكن المهم من تعرف” فتجد أقساما داخل الوزارات تحتكرها مجموعات يُعتمد فيها على الولاء واللغة. السلوك العينوي بدوره لا يقتصر على الدول غير الديموقراطية بل متواجد في الدول التي تتبجح بدموقراطيتها حيث يتم تكديس الأعيان مثلا في مجلس اللوردات ببريطانيا أو مجلس الشيوخ بالولايات المتحدة الأمريكية. فيتم توريث الكراسي لآل كنيدي ولآل كلينتون. يبلغ نفوذ هؤلاء إلى مستوى حجز مقاعد في أعتد الجامعات لذريتهم (جامعة هارفارد نموذجا).


مالذي وقع إذن؟


غاب وانعزل الفاعل المعرفي داخل المجتمع وعوضه الفاعل الإفتراضي الذي لا يتوانى في نفث مفرقعات كلامية صباح مساء . يوجز “أُمبرطو إيكو” هذه المعضلة في جملته التالية ” هذا العالم الإقتراضي أعطى جحافل من البلهاء الحق في الكلام عندما كانوا يتحدثون مرة واحدة فقط في حانة بعد أكواب من النبيذ دون الإضرار بالمجتمع، ثم سرعان ما يتم إسكاتهم. لكن الآن لديهم نفس الحق في الهرطقة كمن فاز بجائزة كد فيها طول حياته علما ومعرفة. إنهم غزاة اليوم”.


أمام هذا التوصيف الذي يبدو متشائما، فإن الأمل معقود على عودة المواطن المخلص لكبح العقل الغنائمي وحماية الوطن أمام أناس يوهموننا أنهم كدوا و إجتهدوا مقابل هذا الجاه.


 

 

المصدر : المركز الديمقراطي العربي