سوق لمْخُوخة


سوق  لمخوخة عبد القادر فلالي

عبد القادر فلالي. أوتاوا. ـ كندا

إن موقع الدماغ في أعلى جسد الإنسان ( وهو في وضعية الوقوف ، أما في وضعية التمدد فهذه حكاية أخرى ) يجعله في موضع يسمح له بالوقوف ( بالرغم من كونه بدون أرجل ) على كل صغيرة وكبيرة تتعلق بالوضائف الكبيرة المعقدة التي تقوم بها كل ذرة في هذا الجسد المعقد المركب السريالي الشكل الذي لولا تعودنا عليه لما زالت سرياليته . فمجرد التفكير في كون أن عقولنا تستخدم أقل من عشرة بالمائة من الوظائف التي من المفروض أن يتم إستغلالها يجعلنا نشعر برغبة جامحة من الوهن والتشتت .

ولعل أشرطة الخيال العلمي المليئة بالمحفزات التي تظهر فشلنا ، وتجعل الإنسان يتحول إلي وحش بسبب الوباء ويقضم إبن جلدته هي صور تشمئز منها الأنفس وتصيب الأبدان بالغثيان . و تلك الأجساد الآتية من الفضاء الخارجي غازية الأرض من أجل مص دماء البشر. ثم في ظل هذا الخضم يأتي بطل ويفك شفرة الداء . فإلقاء الضوء على قبح تلك الأجسام الغريبة ليس غاية في حد ذاته وإنما الغاية هو إلقاء الضوء على حسن ذات الإنسان ، فكما هو الحال مع المفردات صنع المعنى لايتأتى إلا بوجود شيء ونقيضه .

كان متمددا بعد الظهيرة قرب بستان “ الحاجة يامنة” والساقية الصغيرة المحادية لبستان جده الصديق بعد أن قضى الساعة في المنتجع السياحي لأبناء الفقراء "حوض الساقية الكبيرة" القريب من مسكن جارهم "محمد بن دحو"، وهذه الأفكار تمخر دماغه كقطع زجاج صغيرة .

لازالت صور أطفال غزة تقض مضجعه بأسئلتها الغريبة الكثيرة المرعبة التي تعطيه سببا للوجود في سطحية الواقع الذي صار بسيطا إلى درجة البلادة .

السؤال تلو السؤال، والإزعاج بعد الإزعاج لتكسير صنم الوهم وبيع السراب من الأسباب التي جعلت أصدقائه ينادونه بصاحب "المخ العيان" تلك كانت طريقتهم في التعبير عن الفجوة بين سطحيتهم وتقبلهم للأمور كما هي دون مساءلة أو لجان إنصاف أومصالحة وطريقة تفكيره وطرح السؤال تلو الآخر على كل الأمور وأكثرها بساطة . تلك كانت عنصرية فكرية لم يعد قادرا على تحملها وأصبح الإقصاء الذي يعانيه يجعله أمام خيار وحيد أوحد لامناص منه ألا وهو شراء "مخ" عفوا دماغاً جديداً يلائم بقية الأدمغة لأن السوق " يريد هكذا " . على كل حال ليس هناك ما يخجل منه في إقدامه على هذه الخطوة فقد سبقه رواد ورائدات في الإستبدال والتغيير حتى لو كان يعني هذا فقدان الذات .

لذا ومن غير سابق إنذار قرر صاحبنا تغيير مخه وإقتناء مُخ جديد ، فتوجه إلى " سوق لمخوخة " الكائن وسط البلدة والذي إن أردت أن تبحث عنه في خرائط وزارة إعداد التراب الوطني فستجده قرب مجمع " حماية الغابات " .

إستيقظ باكرا رغبة منه في الحصول على " مخ " طازج يناسب المواصفات التي يريدها في مخه الجديد ، فنحن لا نتحدث عن عجلة سيارة .

مدخل السوق ككل الأسواق مليئ بالأزبال والناس والدواب والأبواق و الخضار والتوابل والرقيق ، نعم قلت الرقيق حيث صخب النخاسة يعلو حناجر المريدين ، و يهرع كل المتسوقين لأخذ صنم يتبركون به قبل موسم كل حصاد للأصوات.

ثم فجأة يزول هذا الضجيج بمجرد ولوج جناح الأدمغة ، التي كانت طازجة تُسيل اللعاب فما ألذ الحصول على طبق من المخ المقلي مع البيض وإبرق شاي" مشحّر" . إننا بالطبع نتحدث عن أدمغة ماشية تباع جنبا إلى جنب أدمغة أدمية كتب على بعضها صنع بالتايوان – صنع بألمانيا – صنع بأمريكا وعلى الأغلبية العظمى – صنع " بشارع البساتين " وهي أغلى الأنواع و أكثرها رواجا فمثلا سعر رديئها يفوق البقية أربعة أضعاف أو أكثر .

فبدأ يتفحصها وبطبيعة الحال فهو لن يشتري واحدا من المصنوعة في " حي البساتين " ولا حتى تلك المصنوعة في جهات متنوعة من العالم بل إنه يود الحصول على واحد مهرب ثمنه معقول ، فيتجه نحو الجناح و يطلب من الساهر عليه بكل لباقة أن يبيعه إن كان في الإمكان سلعة من تلك السلع المعلومة المجهولة المصدر التي تباع سرا وعلانية .

صاحب المحل الذي ظنه لوهلة أنه من وحدة مكافحة بيع الأدمغة المهربة ، صرخ في وجهه ونعته بعدو الوطن لكونه يستهلك سلعة غير محلية ، لكنه وبعد أن شرح له الموقف أبدا بعض المرونة ، فنظر يمينا وشمالا وقال له" لابأس لولا أنني أشفق عليك . . . على كل حال إتبعني.

فيدخله عبر باب سري إلى غرفة خلفية تعرض فيها أدمغة مجهولة المصدر.

" ها أنا ذا تمتع !! فعروقه لاتزال حية !"

يتفحصه ويعجب به ، ويأخذ بتفتيشه في كل إتجاه وصوب ليكتشف ومن خلال أحرف صغيرة نحتت على المخيخ أنه صنع في إسرائيل ولم يعمل قط! وها هنا تثور ثائرة صاحبنا وتبدأ نغمات " منتصب القامة أمشي " تدب في عروقه فيصيح في وجه البائع وينعته بأقبح النعوت وأرذلها ويتهمه بالخيانة العظمى للوطن والعروبة . . .

يجيبه البائع : " إنفتح فاك الآن ! لعلمك المال لا رائحة ولا ذوق له والأدمغة بالرغم من كونها ذات رائحة وذوق إلا أنها هنا تخضع لقواعد السوق والمال والأعمال ، وبالمناسبة أحييك على صحوة ضميرك وروحك العالية التي لازالت حاضرة على الرغم من كل الإخفاقات والخيانات والمؤامرات ، نصيحة مني إليك : إحتفظ بمخك وأدخل “سوق رأسك” وإن أحببت أن لا تدخله فلا تدخله هيا غير الساعة بأخرى !!!"

ثم يخرج من بؤبؤ الصراع ، ترتعش ذاته وتجف حنجرته ، تتسارع نبضات قلبه فيقرر الإحتفاظ بمخه ليعود للإزعاج وطرح السؤال في قيلولة تحت شجر الرمان .

بقلم : د. عبد القادر فيلالي – من أوتاوا. ـ كندا

تاريخ النشر : 2018/05/21 م