ذكريات مهاجر سري الجزء الأول


ذكريات مهاجر سري الجزء الأول

المصدر : عبد الكريم السالمي

بين جنان كاباروس و إعدادية عبد الخالق الطريس قضى يونس معظم طفولته في اللعب و اللهو مع أقرانه ، لم تكن الحياة في ذلك الوقت تعني له سوى الإلتزام بالذهاب إلى المدرسة و ممارسة هواياته المفضلة في أوقات الفراغ ٬ يجري في النهار بلا عقل على حافة الواد وراء كرة مصنوعة من البلاستيك و يقضي الساعات الأولى من الليل في لعب "دنيفري" و "داسوس" مع أقرانه في دروب و أزقة حي المير علي الضيقة .

لم يكن فقر عائلته و قلة حيلتهم يعنيه في شيء ، لقد تعلم و هو صغير كيف يجني بعض الدريهمات بعرق جبينه عن طريق جمع أسلاك النحاس و قنينات " البيرة " الفارغة و بيعها في " لفندق " وسط المدينة ، كان يصرف كل ما يجنيه أمام باب مدرسة السمارة في شراء " غزل البنات " و " كابريس " الحلوى التي كان يعشقها كثيرا .

مرت سنوات طويلة كبر فيها يونس الصغير و تمكن من نيل الشهادة الإبتدائية بمعدل متوسط جدا لينتقل للدراسة في إعدادية عبد الخالق الطريس ، كان ﻻ يزال صغيرا في السن لكن عقله كان منفتحا بما يكفي لفهم التحوﻻت و المستجدات التي بدأت مع مرور الوقت تطرأ على حياته و حياة عائلته ، فأبوه الذي كان يعمل حارسا ليليا في ضيعة صغيرة متواجدة على أطراف المدينة لم يعد قادرا على توفير كل إحتياجات المنزل فضلا عن لوازم الدراسة لخمسة أبناء ، كثيرا ما كان يونس يدخل متأخرا إلى المنزل فيقصد المطبخ و ﻻ يجد ما يطرد به جوعه ،

سأل أمه ذات صباح عن نصيبه من وجبات العشاء فأجابته أخته الكبرى ببرودة دم : إن لم تحضر وقت العشاء تعود على النوم و أنت جائع ...أحيانا و قبل خروجه من المنزل كان يعمد إلى سرقة قطعة خبز و بعض الفواكه إن وجدت فيخبئها في مكان ﻻ يخطر على بال أحد و لو كان من الجن ، لم يكن ذلك المكان سوى سلة كبيرة فوق سطح المنزل تجمع فيها الملابس المتسخة المعدة للغسيل ليدخل في الليل و يتناول عشاءه المسروق بحذر شديد تحت جنح الظلام .

رجع ذات مرة إلى المنزل فوجد سلة الغسيل في يد أخته الكبرى ، كان عشاؤه المسروق ﻻ يزال ملفوفا بقطعة قماش في قعر السلة ، إنزوى إلى ركن و أخذ ينصت إلى دقات قلبه في إنتظار اللحظة التي ستنفجر فيها قنبلة العشاء المسروق ، لم يتوقف عن الدعاء في نفسه و إقرار التوبه إن هو نجا من الفضيحة ، من حسن حظه أن زوجة جارهم المهاجر بفرنسا دخلت المنزل في آخر لحظة بعدما وجدت الباب مفتوحاً ، كانت تحمل في يدها قطعا من الحلوى و بعض علب الشاي القادم من فرنسا ، طرحت أخته سلة الغسيل من يديها و إنشغلت مع والدتها بإستقبال جارتهم ،

إنقض يونس على السلة بسرعة البرق و أرجع الأكل المسروق إلى المطبخ دون أن ينتبه لفعلته أحد ثم رجع إلى مكانه بعد أن نزع بسلام فتيل القنيلة التي كادت تفتح عليه أبواب الجحيم ، هم بالخروج من المنزل فدعته أمه لتسلمه نصيبه من قطع الحلوى و هي في أشد حاﻻت الفرح بهدية جارتهم ، ضمت أم يونس ولدها الصغير إلى حضنها و هي تقول :" نشا الله يكبر ولدي و يمشي لفرنسا وي جيبلي أتاي " .
لم يسبق لأم يونس منذ وﻻدته أن دعت له و تمنت له مثل تلك الأمنية ، إحساس دافئ خالج شعوره و هو يسمع ذلك الدعاء الذي نزل على قلبه كقطعة ثلج بارد أنسته حرقة الخوف الذي زرعه في قلبه ذلك العشاء المسروق.

خرج من المنزل و صدى دعاء والدته ﻻ يزال يتردد في أذنيه ، هام به خياله بعيدا إلى ما وراء البحر حيث الحرية و المال و الجمال ، إستفاق من حلمه الجميل على وقع نباح كلب مسعور ليجد نغسه يمشي في أحد دروب الحي المظلمة ، بدت له أمنية أمه وسط ذلك الظلام الحالك كحلم جميل بعيد المنال .
مرت سنوات طويلة على حادثة العشاء المسروق عاش فيها يونس كباقي أقرانه في ذلك الزمن من ثمانينيات القرن الماضي ، فقر و حرمان تقابلهما سعادة فطرية تنبثق من أبسط الأحداث و الأمور إلى أن بلغ سن الخامسة عشر حيث إحتضنته فترة المراهقة مبكراً

أبتلي فيها يونس بتدخين السجائر و تعلقت نفسه بقاعات سينما النصر و المعراج فإزدادت المصاريف و لم تعد دريهمات أسلاك النحاس و قنينات " البيرة " الفارغة تكفي فما كان على يونس إلا أن بدأ يبحث له عن طريق آخر يؤمن به مصروف الجيب المتزايد الذي فرضته عليه إكراهات و تكاليف حياة المراهقة .
وجد يونس بعد فترة قصيرة ضالته مع أحد أبناء حيه الذي كان يشتغل حماﻻ ، فبدأ يرافقه في أوقات فراغه إلى زنقة مراكش وسط المدينة لتفريغ الشاحنات المحملة بالسلع ، أحيانا كان يونس يقصد زنقة مراكش مباشرة بعد خروجه من الإعدادية

بعد أن يرسل محفظته إلى والدته مع إحدى زميلاته في القسم و التي كانت تقطن بمحاذاة منزل عائلته ، لم يكن المبلغ الذي كان يجنيه من تحميل السلع كبيرا لكنه كان يكفيه لسد حاجياته لبضعة أيام .
كان من عادة يونس بعد إنتهائه من عمله التوجه مباشرة نحو أحد بائعي السندويتش بالقرب من سينما الفوكس يطلب نصف خبزة محشوة ببيضة و قطعتي " معقودة " ثم يجلس على الرصيف ، حصل ذات مرة و هو على تلك الحال أن رمقت عيناه أحد أصدقائه من أبناء حيه و هو يمر بالقرب منه ، نادى عليه و سأله عن سبب مجيئه إلى وسط المدينة ،

أخبره صديقه بأنه جاء مع بعض إخوته لتوديع أبيهم الذي سيعود إلى فرنسا عبر الحافلة ثم إستأذنه في الإلتحاق بإخوته الواقفين مع أبيهم في إنتظار موعد الرحيل ، لم يكن مكان وقوف الحافلة يبعد سوى بضعة أمتار ، أنهى يونس وجبته و بقي جالسا في مكانه ينتظر قدوم الحافلة التي ستقل أب صديقة إلى فرنسا .
تحركت في نفس يونس هواجس الهجرة و الرحيل ، تذكر علب الشاي و دعوة أمه له بالذهاب إلى فرنسا ، أشعل سيجارة و راح يحلم بذلك اليوم الذي يمكن أن تتحقق فيه أمنية والدته ، قدمت الحافلة فتجمهر على جانبها الأيمن جمع من المسافرين و مرافقيهم ،

فتح السائق الصندوق المخصص للأمتعة فإرتفع بابا الصندوق من الجهتين ، بدت الحافلة ليونس الواقف خلفها كطائر بسط جناحيه ليحلق بعيدا في السماء ، تمنى لو أنه يحضى بمقعد واحد من مقاعدها ، رحل به خياله بعيدا مرة أخرى و شرع في مناجاة أحلامه : ﻻ أحتاح إلى مقعد و ﻻ حتى إلى نصف مقعد ، يا رب أحتاج فقط إلى الركوب في هذه الحافلة و لو على السطح أو في أي مكان آخر فيها .
دفعه الفضول و الإشتياق إلى الإقتراب أكثر من الحافلة عله يشتم من داخلها نسيم الرحيل أو يحظى ببركة أحد المسافرين ، وقف غير بعيد عن صندوق الأمتعة و راح يتمعن في كبر حجمه ،

تمنى لو أنه يرمي بنفسه وسط ذلك الركام من الحقائب في غفلة من الجميع ، حملق في وجه بعض المحيطين به فبدت له تلك الأمنية أمرا أشبه بالمستحيل .
بدأت فكرة ركوب الحافلة على صعوبتها و من غير سابق تخطيط تدغدغ دماغه ، تراجع خطوات إلى الخلف فلاحظ بأن مؤخر هيكل الحافلة يستحق الإهتمام ، إستغل إنشغال الحاضرين بطقوس الوداع فإنحنى بجسمه نحو الأرض ثم إنزلق تحت الحافلة ، أرسل نظرات خاطفه في كل إتجاه إلى أن وقعت عينه على فتحة كانت بعيدة عنه شيئا ما ، حاول الإقتراب منها حتى يتفحصها جيدا لكنه إنسحب بسرعة مخافة أن يتم إكتشاف أمره ،

نفض التراب من ثيابه ثم إستقام في مشيته دون أن ينتبه إليه أحد ، إبتعد قليلا و راح يتحسر على المهمة التي لم ينجزها بإتقان ، بدأ يلوم نفسه ثم فكر في الإنزﻻق تحت الحافلة مرة أخرى لكن الوقت كان قد فات ، أغلق السائق صندوق الأمتعة و هم المسافرون بالصعود .
وقف يونس و عيناه تراقب في صمت مسار الحافلة و هي تشق طريقها نحو الشمال ، كان عليه أن ينتظر حتى الثلاثاء القادم موعد عودة الحافلة إلى نفس المكان ، رحلت الحافلة لكن هاجس الرحيل و روح المغامرة ظلا يلازمان يونس كالظل. قرر أن يبقي سر هجرته بينه وبين نفسه حتى ﻻ يتعرض للسخرية و الإستهزاء ، فلا أحد في ذلك الزمن خطرت عليه فكرة الذهاب إلى الخارج تحت حافلة ركاب .

"" يتبع ""

تاريخ النشر: 16-10-2019 م