ذكريات مهاجر سري الجزء الثاني


ذكريات مهاجر سري الجزء الثاني

المصدر : عبد الكريم السالمي

عاد يونس إلى الحي و هو ﻻ يفكر سوى في الفتحة التي رآها تحت هيكل الحافلة ، راودته أسئلة كثيرة طوال الطريق دون أن يجد لها جوابا ، كان عليه أن ينتظر أسبوعا كاملا حتى تتجلى له حقيقة كل الأمور .
مرت الأيام و الليالي إنزوى فيها يونس على نفسه و إنقطع عن الكلام حتى إعتقد أهله و كل معارفه بأنه مريض أو يكون قد إبتلي بتدخين المخدرات .
مساء يوم الثلاثاء الموعود توجه يونس نحو المكان المعلوم...وصلت الحافلة أخيرا بعد طول إنتظار و ترقب ،

تجمهر على يمينها كالعادة جمع من المسافرين و مرافقيهم ، إنتظر يونس لحظة ذروة إنشغال الجميع فإقترب من مؤخرة الحافلة بحذر ثم إنزلق تحتها كالسهم ، زحف على بطنه حتى وصل إلى الفتحة التي شغلت باله طوال أسبوع ، كانت على شكل قفص قريب من المحرك ، أدخل جسمه النحيف بداخلها و شرع في تحسس أطرافها و جوانبها فبدت له صالحة للإختباء ، هم بالخروج منها على أن يعود إليها الأسبوع القادم بعد ترتيت أمور هربه لكن صوتا ما بداخله أوقفه : إلى أين أنت ذاهب ؟ لم يرك أحد و القفص ملائم للإختباء و قد ﻻ تحظى بهذه الفرصة مرة أخرى ،

العدة التي كنت تخطط لإصطحابها معك في الأسبوع القادم من ماء و أكل... ﻻ جدوى منها ﻻ قيمة لها الآن ، يكفيك صبر ساعات و ستجد نفسك في النعيم .
إستوى يونس داخل قفص النجاة و قلبه يكاد يتوقف من شدة الخفقان ثم عاد يتحسس أطراف و جوانب القفص من جديد ، تذكر علب الشاي و دعوة أمه له بالهجرة إلى فرنسا فقال في نفسه : لعل الله إستجاب لدعوات أمي في هذا اليوم ، هجعت روحه قليلا فقرر البقاء .
تحركت الحافلة على حين غفلة و لم يعد هناك مجال للرجوع إلى الوراء ، أمسك يونس طرفي القفص بقوة ، سلم مصيره لخالقه و هو يردد في نفسه آية الكرسي التي علمها له أبوه يوم كان يرافقه إلى عمله في الضيعة ،

بدأ له كل شيء على ما يرام عدا تأثره قليلا بحرارة المحرك و قوة الريح المحملة بالتراب ، واصلت الحافلة طريقها في إتجاه مدينة الناظور ، كلما زادت من سرعتها إلا و زادت ثقة يونس بنفسه و إطمأن على حاله ، لم يكن الأمر بالصعوبة التي كان يتصورها من قبل فكان أن تخلص من خوفه و لم يعد يفكر سوى في أمعائه الفارقة ، فهو لم يأكل شيئا منذ فطور الصباح و لم يكن ينوي الهحرة في ذلك اليوم .
توقفت الحافلة بعد ساعات من المسير ، نزل منها الركاب و إختلطت أصواتهم بجانبها ، دام الوقوف طويلا فعلم يونس بأنه وصل إلى بني نصار بسلام ، تحركت الحافلة من جديد ،

تغير صوت عجلاتها من حوله و لم يعد الغبار يتصاعد من الأسفل ، لم يتمالك يونس نفسه من شدة الفرح و هو يودع بعيونه أرض الأجداد و يدخل لأول مرة في حياته إلى الباخرة تحت حافلة ركاب .
بعد لحظات طويلة من الحركة و الضجيج عم المكان سكون قاتل إطمأنت له نفس يونس ، كانت عضلات جسمه متجمدة جراء مكوثه داخل القفص لساعات طوال ، شعر بحاجة للخروج فإنحنى برأسه إلى الأسفل و راح يقلب نظره في كل الجهات ، ﻻ شيء سوى نور خافت ينبعث من بعيد ، خرج ببطء شديد بعدما تيقن من خلو المكان ، تحررت أطرافه و عضلات جسمه فشعر بنوع من الإرتخاء فأغمض عينيه و غفا بضع لحظات

لكن الجوع و العطش أفسدا عليه غفوته و حرماه من النوم ، إستلقى على ظهره و راح يفكر في أفراد عائلته ، تخيل حياتهم من دونه ... قريبا سيحل عليهم الظلام و يبدأون رحلة البحث عنه ، ﻻ شك أنهم سيبحثون عنه في كل مكان ، في المستشفى و في دوائر الأمن ، في مقهى عكاشة و في كل الأزقة و الدروب ، حز في نفسه حالهم و هم يبحثون عنه بلا جدوى في كل مكان ، تخيل حال والدته ففاضت عيناه من الدمع حزنا على الألم و الأسى الذي سيسببهما لها غيابه .
مرت ساعات طوال و يونس جاثم في مكانه يئن تحت وطأة الجوع و العطش و الكوابيس التي أبت إﻻ أن تصاحبه لتزيد من وحشته في ذلك المكان ،

بقي على تلك الحال يغفو حينا و يستيقظ أحياناً إلى أن شعر بحركة دؤوبة من حوله فزع لها قلبه فأسرع في الصعود إلى قفصه ، كان موعد النزول من الباخرة قد إقترب .
كم كانت فرحته كبيرة بنفسه و بنجاح مغامرته لما رأى الأرض بعينيه من جديد ، أرض أوروبا ، أرض الأحلام و الخلاص و الحرية .
خرجت الحافلة من الميناء و زادت من سرعتها ، لم يكن يونس يعرف كم ستستغرق الرحلة من وقت حتى يصل أخيرا إلى فرنسا ، إختلطت في نفسه مشاعر الفرحة بمخاوف الموت جوعا و عطشا ، إستمرت الحافلة في المسير لساعات و بلغ منه العطش منتهاه ، لم يعد قادرا على تحمل المزيد و تيقن بأنه لن يستطيع الصبر حتى يصل إلى فرنسا فقرر النزول بمجرد توقف الحافلة في أي مكان ، قال في نفسه : أن أعيش في إسبانيا خير من أن أصل ميتا إلى فرنسا .

لم يمر وقت طويل حتى شعر بالحافلة تخفف من سرعتها ٬ إستمرت على ذلك الحال لدقائق طويلة ثم خفظت من سرعتها أكثر إلى أن توقفت تماماً عن المسير ، خرج يونس بسرعة من مخبئه و ألقى بنفسه على الأرض ، شاهد نزول بعض الركاب من الجانب الأيمن ، لم تتوقف على يساره حركة السيارات فقرر الخروج من خلف الحافلة ٬ تريث قليلا حتى بدت له الفرصة سانحة فخرج بسرعة ، إستقام بصعوبة في وقفته ، إبتعد قليلا فإنحنى بظهره واضعاً يداه على ركبتيه ٬ لم يكن قادرا على الوقوف كما يجب ، شد منظره البئيس إنتباه بعض المارة لكن ﻻ أحد آكترث لحاله فإستبشر خيرا بذلك الإهمال ، بقي على تلك الحال حتى إسترجع بعض أنفاسه و قليلا من قوته ،

كان بحاجة شديدة لمن يمده بقليل من الأكل و جرعة ماء ، لم يكن أمامه سوى الرجوع إلى الحافلة و طلب المساعدة من الركاب فكان أن إقترب منها و راح يتطلع في وجوه الجالسين خلف الزجاج ، وقعت عينه على عين آمرأة تضع على رأسها قبعة سوداء ، تبادﻻ النظرات للحظات ، بدا تأثر المرأة جليا بحالته البئيسة و وجهه الشاحب ، رفع يده إلى فمه و أومأ إليها بأنه بحاجة إلى الأكل ، خرجت المرأة بسرعة حاملة في يدها بعض القطع من " الماضلين " وضعتها في يده و ظلت تراقبه و هو يأكل بنهم بالغ ، توسل إليها بأن تبحث له على قليل من الماء ، وضعت المرأة رأسها بين يديها من هول المفاجأة قائلة له : " أنت عربي ؟" ثم صعدت بسرعة للحافلة و عادت بقنينة ماء ،

سألته عن قصته فأخبرها بأنه قدم من وجدة تحت الحافلة فكادت المرأة تسقط من هول ما سمعت ، إلتف حولهما بعض الركاب من حسن حظه أن سائق الحافلة و مساعده لم يكونا في عين المكان ، أخذته المرأة صاحبة القبعة السوداء إلى مقهى قريب فغسل وجهه و بلل شعر رأسه الناعم ، نزع أحد الركاب سترة كان يرتديها و ألبسها إياه ، بدا حاله أفضل مما كان عليه ، سأل يونس بعض الركاب عن إسم تلك المدينة فأخبره بعضهم بأنها مدينة صغيرة إسمها لوركا . تأثرت المرأة صاحبة القبعة السوداء بحاله كثيرا حد البكاء لما أخبرها بأنه لا يدري إلى أين سيذهب ،

مع إقتراب موعد الرحيل جمع له بعض الركاب في كيس بلاستيكي بعض القطع من الخبز و " الماضلين " و قنينة ماء .
أخرجت المرأة ذات القبعة السوداء من حقيبتها ورقة نقدية زرقاء بقيمة خمسين فرنكا فرنسيا فقالت له : هذه عملة فرنسية و ليست إسبانية و لكن إحتفظ بها لعلها تنفعك في شيء . فكر في الرجوع إلى الإختباء تحت الحافلة من جديد لكن الوقت كان قد فات ، رجع سائق الحافلة و مساعده فإضطر يونس إلى الإبتعاد ، لم تجد المرأة ذات القبعة السوداء بدلا من تركه لحال سبيله ، صعدت إلى الحافلة و هي تمسح دموعها و تدعو ليونس بالحفظ و السلام .

إستعدت الحافلة للإقلاع لكن يونس لم يكن مستعدا بما يكفي لمواجهة ما ينتظره من مصير غامض في بلد غريب ﻻ يتكلم لغته و ﻻ يعرف فيه أحدا ، رحلت الحافلة و رحل معها حلم يونس في الوصول إلى فرنسا ، بقي واقفا لوحده يستكشف بعيون حائرة فضاء شارع فسيح ، نظر على يمينه ثم على يساره فبدت له كل الجهات مظلمة ظلام ليل حالك ، لم يكن يعرف أي طريق يسلك و ﻻ في أي آتجاه يسير ، أخرج علبة سجائر من جيبه أشعل واحدة منها و راح يعيد النظر في كل الجهات ، كان عليه أن يتحرك من مكانه حتى ﻻ يثير شكوك أحد.

إطمأنت نفسه لجهة اليمين فخطا خطواته الأولى نحو المجهول ظل يسير ما يزيد على ساعة من الزمن و عيناه تسرقان النظر في المحلات و المتاجر و المقاهي و وجوه المارين من حوله ، كان يسير على أمل أن يصادف في طريقه رجلا أو آمرأة من أي بلد من بلاد العرب ، دخل شوارع و خرج من أخرى دون أن يعثر على ضالته ، لم يعد يتذكر الشارع الذي وقفت فيه الحافلة من كثرة المسير ، أرهقه المشي فلجأ إلى حديقة صادفها في طريقه ، وضع كيسه البلاستيكي بجانبه و ألقى بظهره على كرسي من إسمنت ثم راح يقلب نظره في السماء ، عاد به الحنين للوطن شعر بندم شديد و هو يتخيل حال أفراد عائلته بعد غيابه الغامض عن البيت ليومين متتاليين ،

تابع بحزن شديد شريط ذكريات ماضيه التليد حتى غلبه النوم لكن كرسي الإسمنت لم يكن مريحا بما فيه الكفاية فقام و إعتدل في جلسته و راح يفكر في حاله من جديد ، كانت الشمس على موعد قريب مع الغروب ، بات من المؤكد له أنه سيقضي ليلته الأولى في العراء ، ألقى بنظره في أرجاء الحديقة فبدت له مكانا آمنا للنوم .
حمل كيسه البلاستيكي و تابع رحلة البحث و الإستكشاف ، كان يلتفت وراءه بين الحين والآخر حتى يتذكر جيدا موقع الحديقة ، إنتهى به الشارع الذي كان يسير فيه عند ملتقى طرق تتوسطه نقطة دائرية بها تمثال رجل مصنوع من البرونز ، إستدار خلفه فبدا له طريق العودة للحديقة واضحا ،

تابع سيره ليجد نفسه أمام أحد المقاهي ، كانت طاوﻻتها مرتبة بعناية على جانب من رصيف واسع ، إشتاقت نفسه لكأس شاي أو فنجان قهوة ، وقف ينظر إلى بعض الجالسين هناك فشد إنتباهه إنصراف أحد الأشخاص تاركا وراءه فوق الطاولة قنينة ماء شبه فارغة و كأسا مملوء إلى النصف بقهوة سوداء ، لم يسبق ليونس طوال حياته أن مد يده إلى شيء يخص غيره لكن الجوع دفعه مكرها في ذلك اليوم إلى طرح عزة نفسه أرضا ، إقترب من الطاولة ببطء شديد و عينه على واجهة المقهى ، أخد كأس القهوة و سكب ما فيه في قنينة الماء التي كان يخالها فارغة ، لم ينتبه من شدة خوفه إلى إختلاط شراب القهوة بالماء إلا بعد أن إنتهى من فعلته ،

رفعه بصره نحو واجهة المقهى فرأى النادلة تراقبه من خلف الزجاج ، كانت فتاة شقراء في مثل سنه أو تكبره بقليل ، تجمد الدم في عروق يونس و لم يستطع رفع بصره عن وجهها ، لم يكن مهتما بجمالها بقدر ما كان ينتظر ردة فعلها ، ظلت الفتاة الشقراء تنظر إليه للحظات دون أن تصدر منها أي ردة فعل ، إستحيا يونس من فعلته فإنحنى برأسه متأسفا و هم بالإنصراف .
كان الليل قد أرخى سدوله ، عاد يونس إلى الحديقة و هو يفكر طوال الطريق في النادلة تلك الفتاة الشقراء التي شهدت فعله المشين و لم تفكر في إيذاءه أو الإساءة إليه ، لم يستطع أن يفهم موقفها لكنه علم أنه يتواجد بعيدا جدا عن ذلك البلد الذي يعتدي فيه الضعيف على الضعيف

"" يتبع ""

تاريخ النشر: 22-10-2019 م