ليلة في باريس الجزء الثالث


ليلة في باريس الجزء الثالث

المصدر : عبد الكريم السالمي

تحركت مشاعر الأمل في قلب هشام من جديد وهو يقف أمام أستاذته أمينة التي إستقبلته كعادتها بإبتسامتها المعهودة ، أمسكت ذراعه برفق وطلبت منه أن يستعد للسفر غدا صباحا إلى مدينة بركان للقاء أمه ، لم يتمالك هشام نفسه من شدة الفرحة وهو يسمع ذلك الخبر الذي طالما إنتظره طوال حياته ، نظر في ذهول إلى عمه الذي كان يجلس في المقعد الخلفي للسياره وكأنه يطلب منه أن يؤكد له صحة ذلك الخبر الجميل ، إبتسم في وجهه عمه رشيد وطلب منه ان يعدهما أولاً بالإقلاع عن تدخين المخدرات إن هو أرادهما أن يستمرا في الوقوف بجانبه ، عبر لهما عن فرحته وقطع لهما وعدا على نفسه أن يغير من سلوكه وأن يبدأ حياة جديدة مهما كانت الأحوال والظروف .

تحركت السيارة صباح الغد في إتجاه مدينة بركان وتحرك معها خيال هشام من جديد ، ظل على طول الطريق يحلم بتلك اللحظة التي سيعانق فيها أمه وتعانقه بعد طول إنتظار ، لم يوقظه من حلمه الجميل سوى وقوف السيارة في أحد الشوارع الضيقة لمدينة بركان ، إستدار نحوه عمه رشيد وراح يحدد له بيده منزل عائلة أمه الموجود في أحد الأزقة ثم طلب منه أن يذهب لوحده تفاديا لأي مشاكل قد تحدث مع عائلة أمه إرتعد جسم هشام وإزدادت نبضات قلبه ، هم بالخروج من السيارة وهو يمسح بيده قطرت الدمع من عينيه ، سألته أستاذته عن سبب تلك الدموع فأخبرها بأنه تذكر تلك الأيام التي كان ياتي فيها لوحده إلى مدينة بركان وكيف أنه كان يمر من هذا الطريق دون أن يعرف بأن أمه تسكن في ذلك الزقاق .

توجه هشام نحو المنزل الذي حدده له عمه على إيقاع نبضات قلبه الذي كاد يتوقف من شده الخفقان ، وصل إلى المنزل وإستدار خلفه نحو أستاذته وعمه رشيد ، طرق الباب برفق وراح يتخيل أمه واقفة أمامه ، إنتظر بعض اللحظات ثم طرق الباب مرة أخرى على أمل سماع صوت أو خطوات قادمة من خلف الباب لكن شيئا من ذلك لم يحدث ، رفع بصره إلى الأعلى فوجد كل نوافذ المنزل مغلقة ، عاد لينظر إلى باب المنزل الذي ظل مسدودا ، طرقه مرة ثالثة ثم حول بصره مرة أخرى نحو أستاذته وعمه رشيد وهو يحاول أن يطرد من ذهنه كوابيس اليأس والإحباط ، تراجع خطوات إلى الوراء بعدما بدا له المنزل خاليا مهجورا ، لحقت به أستاذته وعمه رشيد وراحا يطرقان الباب مرات ومرات دون أن يستجيب لندائهما أحد ، ألم اليأس بهشام الذي لم يكن قادرا على إخفاء حزنه الشديد .

توجهت الأستاذة أمينة نحو دكان قريب وطلبت من صاحبه أن يمدهم ببعض المعلومات عن أصحاب ذلك المنزل فأخبرها بأنهم رحلوا منذ زمن طويل ، شرحت له سبب مجيئهم وتوسلت إليه أن يتذكر شيئاً قد يساعدهم في الوصول إلى أم هشام لكنه أكد لها بأنه لا أحد في الحي يعرف شيئا عن أصحاب ذلك المنزل سوى أنهم رحلوا للعيش في مدينة الناظور .

ضاع حلم الوصول إلى أم هشام في ذلك الزقاق الضيق وتقطعت معه كل أسباب الوصول إليها ، عاد الجميع إلى السيارة وهم يتجرعون مرارة الحزن الذي خلفته في قلوبهم نهاية رحلة البحث عن أم هشام .

خيم صمت طويل على طول طريق العودة من مدينة بركان إلى وجدة ، حاولت الأستاذة أمينة إخفاء خيبة أملها وهي تتأمل بحزن أحداث الفصل الأخير من قصة البحث عن أم هشام ، لم يكن أمامها سوى أن تغير من أسلوب خطابها مع تلميذها المعذب في محاولة لإقناعه بتقبل الواقع الذي يعيش فيه ، نادته بإسمه وراحت تحدثه عن الصبر والإيمان بالقضاء والقدر وأشياء أخرى لكن هشام لم يكن يسمع من كلامها أي شيء ، كان غارقا في غياهب صمت رهيب وهو يتابع من خلف زجاج نافذة السيارة شريط ذكرياته الأليمة و هي تمر أمام عينيه مرور الأشجار المتراصة على طول الطريق .

ندم هشام على كل الأوقات التي ضيعها في رحلة البحث عن أمه التي تخلت عنه ولم تكلف نفسها عناء البحث عنه رغم علمها بمكان وجوده ، إعتصرت قلبه حسرة قاتلة وهو يتخيلها تعيش حياتها في راحة وهدوء ، قال في نفسه لعلها تكون قد تزوجت مرة أخرى وأنجبت أطفالاً غيره و لم تعد لها حاجة بوحوده ، تحركت في نفسه فجأه هواجس الحقد و الكراهية نحو أمه ، أخرج من جيبه صورتها التي ظل يحملها معه لسنين طويلة وراح يقطعها في هدوء إلى قطع صغيرة ، قرر في تلك اللحظه أن يترك عالم أمه و وراءه و أن يبدأ حياته من جديد بعيدا عنها وعن شوقها وكل ذكرياتها الأليمة .

مرت أربع سنوات على رحلة العوده من مدينة بركان ، إستسلم فيها هشام طواعية للقدر تاركا سفينة الحياة تسير به كيفما تشاء ، إستطاع مع مرور الوقت أن يستعيد بعضا من إستقراره النفسي ويعيش أيامه بعيدا عن الأحلام والأوهام والذكريات لكن الأحزان كانت تتربص به على جانب الطريق من بعيد ، إستفاق ذات صباح على وقع رحيل جدته التي كانت تعتني به وتهتم بأمره كثيراً ، لم يشعر بأن جدته كانت هي أمه الحقيقية إلا بعد فوات الأوان ، دام تأثره برحيلها طويلا إلى أن قاده الحزن على فراقها نحو طريق المخدرات من جديد .

مرت أسابيع وشهور وهشام يعيش عيشة البؤساء في عالمه القديم الجديد ، لم يعد يهتم لحاله ولا لهندامه ، ضعف جسمه وتغيرت ملامح وجهه من شده إدمانه المخدرات ، فشلت كل محاولات عائلته في إقناعه بالإبتعاد عن طريق الإدمان . تذكر عمه رشيد ذات ليلة الأستاذة أمينة فقرر الإتصال بها علها تساعده في إنقاذ إبن أخيه من جحيم الضياع. ألم الحزن مرة أخرى بقلب الاستاذة أمينة أسفا على تلميذها المسكين الذي كتب عليه الشقاء منذ طفولته ، أخبرت عمه رشيد بأنها أصبحت عاجزة عن فعل ما يمكن أن يعيد البسمة لحياه إبن أخيه فطلب منها أن تساعده فقط في إقناعه بالهجرة إلى الخارج ، إستحسنت الفكرة لكن بدت لها في ذات الوقت صعبة التطبيق في ظل إفتقار هشام لأبسط شروط الحصول على التأشيرة فكان أن طلبت منه مزيدا من الشرح والتفصيل ، قال لها بأنه يريد إرسال هشام للعيش مع عمته في مدينة باريس و بأن الأمر كله يتعلق بالمال ، أخبرها بأنه يعرف بعض المعارف القادرين على إيصال هشام إلى فرنسا في أي وقت .

كانا يتحادثان حول ذلك الموضوع وهما جالسان داخل السيارة قرب باب المؤسسة وبينما هما على تلك الحال وفي لحظة عابرة رمقت عين الأستاذة أمينة هشام وهو يمشي على الرصيف ، إستبشرت خيرا بتلك الصدفة فخرجت من سيارتها ونادت عليه ، وقف هشام ينظر من بعيد إلى أستاذته التي لم يرها منذ أكثر من أربع سنوات ، لم تكن له رغبة في لقائها في ذلك الوقت ، لقد مات في داخله كل شيء جميل ولم يعد يقوى على سماع مزيد من النصائح والإرشادات ، ظل واقفا في مكانه إلى أن تفاجأ بها وهي تسير في إتجاهه ، إستحيا من ذلك الموقف وسارع إلى لقائها ، ألقى عليها التحية وهيأ نفسه لسماع الخطب والمواعظ لكن كل ذلك لم يحدث ،

أخبرته بأن عمه حكى لها عنه كل شيء وبأنها تريد أن تساعده في بناء حياته ، إقترحت عليه ومن دون مقدمات الهجرة إلى فرنسا ، لم تكد الأستاذة أمينة تكمل حديثها عن أسباب و دواعي ذلك الإقتراح حتى عبر لها هشام عن إستعداده للهجرة ، أخبرها بأنه هو الآخر كان يفكر في الرحيل بعيدا عن هذا العالم الذي لم يجن منه سوى العذاب والضياع .

لم تمر سوى أيام قليلة حتى وجد هشام نفسه في مطار أورلي مع عمته زينب التي كانت في إنتظاره . بين ليلة وضحاها تغير من حول هشام كل شيء ، تاه ببصره وخياله في ذلك العالم الجديد وهو يجلس داخل السيارة بجانب عمته في اتجاه مدينة corbeil ، شيء ما في داخله كان يشعره بكثير من الفرحة والارتياح .

مرت ثلاث سنوات على وصول هشام إلى مدينة باريس ، نسي فيها عالمه القديم ولم تعد تربطه به سوى الإتصالات الهاتفية بعمه رشيد وبعض الذكريات الأليمة التي ظلت عالقة في ذهنه ، إستطاع مع مرور الوقت أن يتأقلم بسرعة مع عالمه الجديد ويتحدث اللغة الفرنسية بنوع من الطلاقة ، ساعده في ذلك إهتمام عمته وأبنائها به وكذا عمله في أكبر أسواق مدينة باريس كبائع للورد مع أحد تجار الجملة ، لم يكن يكسب من عمله ذلك مبلغا كبيرا لكنه كان يكفيه لسد حاجياته الشخصيه . كان من عادة هشام التوجه كل يوم إلى أحد المقاهي عقب إنتهائه من عمله ليقضي هناك بعض الوقت جالسا لوحده قبل أخذ قطار العودة إلى مدينة corbeil حيث يسكن مع عمته و عائلتها .

حدث ذات مرة أن دخل المقهى الذي إعتاد التردد عليه فوقعت عينه صدفة على فتاة في مثل سنه ، شيء ما في داخله جذبه بقوة نحو تلك الفتاه الرشيقة صاحبة الشعر الأسود الداكن التي كانت جالسة مع إحدى رفيقاتها ، إنتفض في نفسه فجأة شعور غريب حول تلك الفتاه ، كان يتطلع في وجهها خلسة من حين لآخر إلى أن رفعت الفتاة بصرها صدفة فوقعت عينها في عينه ، تبادلا النظرات للحظات قصيره في موقف غريب إلى أن حولت الفتاه نظرها نحو صديقتها وراحت تتابع معها أطراف الحديث وكأن شيئا لم يكن ، أمسك هشام في يده فنجان القهوة و هو يفكر في تلك الفتاه التي شغلت باله منذ أول نظرة ، تحركت بعض البلابل في قلبه وظلت تسبح طويلا في فضاء خياله الواسع إلى أن وقفت الفتاه من مكانها ،

مرت بالقرب منه في هدوء وتوجهت مع صديقتها نحو باب المقهى ، تفاجأ بها وهي تستدير خلفها لتلقي عليه نظرات أخرى مما جعله يعتقد بأن بلابل أخرى تكون قد تحررت من أقفاصها لتحلق في سماء الضفة الأخرى .

خرج هشام من المقهى وتوجه نحو محطة القطار الذي يقله الى مدينة corbeil ، ظلت صورة الفتاة الرشيقة عالقة بين أهذاب خياله الواسع على طول مسافة الطريق ، لم يكن قد سبق له أن رأى تلك الفتاة في ذلك المقهى الذي تعود الجلوس فيه ، تمنى من أعماق قلبه لو أنه حادثها أو طلب منها رقم هاتفها ، شعر بندم بالغ على ضياع تلك الفرصة التي قد لا تعود من جديد ، نام تلك الليلة وقلبه تائه في فيافي الأحلام والأمنيات .

لم يكن هشام يعلم بأن القدر يخبئ له لقاء جديداً مع تلك الفتاة التي شغلت فؤاده إلا حينما رفع بصره ذات صباح وهو جالس في القطار متوجه إلى عمله ليجد الفتاة الرشيقة تنظر إليه و هي واقفة أمامه على بعد خطوات قليلة من المقعد الذي كان يجلس فيه .

"" يتبع ""

تاريخ النشر: 27-02-2020 م