ليلة في باريس الجزء الأخير


ليلة في باريس الجزء الأخير

المصدر : عبد الكريم السالمي

لم يكن هشام يعلم بأن القدر يخبئ له لقاء جديدا مع تلك الفتاة التي شغلت فؤاده إلا حينما رفع بصره ذات صباح وهو جالس في القطار متوجه إلى عمله ليجد الفتاة الرشيقة تنظر إليه وهي واقفة أمامه على بعد خطوات قليلة من المكان الذي كان يجلس فيه ، إبتسم في وجهها ودعاها للجلوس بجانبه ، ترددت الفتاة قليلا ثم ما لبثت أن قبلت دعوته ، ألقى عليها تحية الصباح ثم أخبرها بوجه مبتسم بأنه ضيع الفرصة الأولى في المقهى ولا يريد تضييع الثانية ، بادلته الفتاة نفس الإبتسامة قائلة : يا لها من مقدمة.

جمعت الصدفة مرة أخرى بين هشام وصابرين، دار بينهما حديث طويل على طول الطريق.، بدا و كأنهما يعرفان بعضهما البعض منذ زمن طويل، لم تكن رغبة صابرين في التعرف على هشام أقل من رغبته في معرفة كل شيء عن حياتها، لم يقطع حديثهما الطويل سوى وصول القطار إلى مدينة rungis ، تبادلا أرقام هاتفيهما وتواعدا على اللقاء من جديد مباشرة بعد الخروج من العمل ، توجهت صابرين إلى مقر عملها في مركز leader price وأخذ هشام طريقه نحو عمله في سوق الجملة .

تجدد اللقاء بينهما في المقهى الذي كانا قد إلتقيا فيه أول مرة ، طلبت منه أن يحدثها في البداية عن نفسه وعن أسباب مجيئه إلى فرنسا ، كانت تتوق لمعرفة كل شيء عن حياته لكن هشام لم يكن مستعدا بما يكفي للنبش في ذاكرة ماضيه الأليم ، تردد كثيراً في إخبارها بتفاصيل طفولته المعذبة و ما سببه له فراق أمه من مآسي وأحزان ، تغيرت ملامح وجهه مما أثار إنتباه صابرين التي ظلت تنتظر منه جوابا على السؤال الذي طرحته عليه ، لم يكن أمام هشام في ذلك الموقف سوى أن يختلق لنفسه قصة جديدة بعيدة عن الحقيقة القاسية التي عاشها في حياته ، تذكر جدته التي إحتضنته بدفء منذ صغره وتذكر معها تفاصيل ذلك اليوم البئيس الذي وقف فيه أمام جثمانها يبكيها من غير دموع ، صمت قليلا ثم أخبرها بأنه عاش طفولة عادية وبأنه هاجر من المغرب حزنا على رحيل أمه التي توفيت منذ بضع سنوات ، تأثرت صابرين بكلامه كثيرا لكنها لم تكن تعلم بأنه كان يقصد بذلك الكلام جدته وليس أمه التي ولدته .

خيم بينهما الصمت للحظات إلى أن تعمدت صابرين كسر ذلك الصمت فراحت تحدثه عن عملها و أحلامها و أمانيها و عن حياتها منذ صغرها ، دام ذلك اللقاء بينهما طويلا وتبعته لقاءات أخرى توطدت معها صداقتهما كثيرا . تعلق قلب هشام وصابرين بالقطار الرابط بين مدينة corbeil ومدينه rungis والذي يمر كل يوم بمدينة juvisy حيث تسكن صابرين مع والديها ، كانا يلتقيان كثيرا في نفس القطار وهما في طريقهما الى العمل.

مرت سنة كاملة على لقائهما الأول وأصبحت صابرين شديدة التعلق بهشام ، كانت تناديه بإسم وحيد من كثرة حديثه عن عشقه للوحدة والإنزواء إلى درجة نسيت مع مرور الوقت إسمه الحقيقي.

لم تكن صابرين تخفي عن أمها تعلقها بوحيد ، كانت تحكي لها عنه كل شيء إلى درجة أخبرتها أمها ذات ليلة برغبتها في لقائه ، إنتهزت صابرين تلك الفرصة فإستأذنت والدتها في دعوة وحيد إلى حفلة عيد ميلادها الذي لم تكن تفصله عنهما سوى بضعة أيام. تعود هشام منذ طفولته الإبتعاد عن الحفلات ، لم يسبق له طوال حياته أن حضر حفلة عيد ميلاد أحد لكنه في تلك المرة كان مكرها على قبول دعوة صديقته ، لم يكن أمامه سوى التنازل عن بعض عاداته القديمة ومسايرة الواقع الجديد الذي أصبح يعيش فيه ، هيأ نفسه كما ينبغي لحضور حفلة عيد ميلاد صديقته ثم توجه نحو محطة القطار في إتجاه مدينة juvisy حيث منزل عائلة صابرين .

كان آخر الوافدين إلى الحفل ، وجد صابرين تنتظره أمام باب المنزل، أمسكت بذراعه وقادته نحو الصالون حيث كان يجلس المدعوون ثم نادت على أمها التي حضرت في الحين لتسلم على وحيد ، مد يده إليها لكنها إقتربت منه و عانقته ثم راحت تنظر إليه مبتسمة بعيون مليئة بحفاوة الإستقبال، قالت له بصوت دافء : إذاً أنت هو وحيد ، هم هشام بإخبارها بإسمه الحقيقي لكن صابرين قاطعته بعفوية ومن غير قصد قائلة لأمها : نعم إنه وحيد الذي طالما حدثتك عنه .

جددت أم صابرين عبارات الترحيب مرة أخرى لوحيد ثم دعته للجلوس بجانبها وراحت تتجاذب معه أطراف الحديث في جو مفعم بالفرحة والإرتياح تحت أنظار صابرين التي ظنت بأن أمها تريد معرفة كل شيء عن صديقها الجديد.

إستمرت الحفلة على نغمات الموسيقى الهادئة التي كثيرا ما كانت تختفي وراء قهقهات صديقات صابرين وحوارهن الصاخب إلى أن وصل والد صابرين إلى المنزل عائدا من العمل ، دخل غرفته بعد ان سلم على الضيوف ثم إلتحق مرة أخرى بالصالون ليشارك الجميع حفلة عيد ميلاد إبنته الوحيدة ، دعته زوجته للجلوس بجانب وحيد وطلبت من إبنتها مرافقتها للمطبخ ، عادتا بعد لحظات وهما تحملان فطيرة كبيرة من الحلوى وبعض المشروبات الغازية ، أوقفت صابرين الموسيقى وراحت تباشر طقوس حفلة عيد الميلاد في جو مفعم بالسعادة و المرح ، أخذت نفساً عميقاً ثم أطفات الشموع تحت تصفيقات الحاضرين ، شغلت آلة الموسيقى مرة أخرى وتابع الجميع الإستمتاع بتلك الحفلة التي لم يكتب لها الدوام حتى النهاية .

في لحظة عابرة وبينما كانت صابرين ترقص مع أحد صديقاتها فقدت توازنها قليلا فلامس جسمها مرفق وحيد الذي كان يحمل في يده كأس مشروب غازي فكان أن انسكب الكاس على صدره ، إحمر وجه صابرين خجلا وهي تقدم إعتذارها لوحيد ، كان قميصه قد بل من الأمام عن آخره الى درجة لم تنفع معها كل محاولات صابرين في تنقيته ، دخل والدها غرفته ثم عاد وهو يحمل في يده قميصا جديدا فإقترب من وحيد وطلب منه خلع قميصه المبلل ، إزداد وحيد خجلا وبدت عليه علامات الإرتباك لأنه لم يكن يرتدي تحت قميصه المبلل أي شيء ، حاول أن يعتذر فبدأ له الإعتذار في عيون الحاضرين سخيفا ، خلع قميصه مكرها وهم بإرتداء القميص الجديد لكن صابرين طلبت منه الإنتظار ،

حملت في يدها منشفة وراحت تنظف صدره المكشوف ، كانت أمها تقف بجانبها وهي تتابع بتمعن شديد كل شيء ، إنتهت صابرين من تنظيف ما علق من سائل المشروب الغازي على صدر وحيد و طلبت منه إرتداء قميص والدها لكن أمها وفي تصرف غريب أخذت المنشفة وراحت تنظف صدر وحيد من جديد مما أثار إنتباه كل من كان في الصالون ، شكرها وحيد وطلب منها بأدب التوقف لكنها تابعت مسح صدره في شروذ وكأنها لم تسمع من كلامه أي شيء ، إستمرت في مسح صدره إلى أن تدخل زوجها وأمسك ذراعها برفق ثم ساعدها على الوقوف .

بدت أم صابرين وكأنها غائبة عن الوعي ، نظرت في وجه زوجها بعيون حائرة ثم عادت لتجلس في مكانها من جديد ، جثت على ركبتيها وراحت تتحسس بيديها آثار ندبات واضحة على صدر وحيد ثم نظرت في عينيه وسألته عن سبب تلك الندبات فأخبرها وهو يحاول أن يكتم إستغرابه بان إبريق شاي ساخن إنسكب على صدره يوم كان صغيرا ، رفعت أم صابرين بصرها في وجه زوجها وإبنتها والحيرة تكاد تقتل أنفاسها ثم إنتفضت من مكانها فجأة وطلبت من وحيد أن يريها ظهره وهي تسأله في عجالة عن إسمه وإسم والدته ومكان إزدياده ، وقف كل من كان في الصالون يتابع فصول ذلك المشهد الغريب ، كانت أم صابرين تتحسس ظهر وحيد بيدها وكأنها تبحث عن شيء أو علامة مميزة الى أن سقطت على الأرض وهي تتمتم ببعض الكلمات المتقطعة ، حاول كل من كان حولها إيقافها لكنها كانت قد دخلت في غيبوبة طويلة لم ينفع معها شيء سوى الإتصال بسيارة الاسعاف .

تم إدخال أم صابرين إلى قسم المستعجلات كانت لا تزال غائبة عن الوعي ، تجمع حولها طاقم طبي على جناح السرعة وسارعوا في مباشرة الإسعافات الضرورية في محاولة لإنقاذها من الموت ، ظل وحيد وأفراد عائلتها جالسين في قاعة الإنتظار وقلوبهم معلقة بين حبال الأمل والرجاء إلى أن خرج الطبيب المعالج وأخبرهم بان حالتها ليست بالخطيرة لكنها تستدعي مراقبة طبية مستمرة في الوقت الراهن .

لم يفهم والد صابرين ما وقع لزوجته التي لم يسبق لها أن عانت من أي مشاكل صحية ، دارت في ذهنه أسئلة كثيرة وهو ينظر في وجه وحيد الذي ظل واقفا وعلامات الحيرة والإرتباك تعلو وجهه الشاحب ، لم تكن صابرين أقل حيرة من والدها حاولت أن تفهم شيئا من وحيد وهي تسأله عن علاقته بما حدث لأمها إلا أنه أخبرها بأنه هو الآخر لا يملك أي تفسير . لم يكن أمامهم في ذلك الموقف سوى الصبر والدعاء في إنتظار نزول ساعة الفرج ، خيم صمت طويل على الجميع وطال الإنتظار أكثر من اللازم مما دفع صابرين ووالدها للتوجه من جديد نحو قسم الإستعلامات.

أخبر الطبيب المعالج والد صابرين بأن زوجته إستفاقت من غيبوبتها لكن حالتها لم تكن مستقرة مما دفعه لإعطائها بعض المهدئات القوية ثم إستأذنه بالإنسحاب لكنه ما لبث أن عاد إليه من جديد و أخبره بأن زوجته ظلت تردد كثيرا كلمة هشام قبل أن يستجيب جسمها لمفعول المهدئات... لم يكن والد صابرين قد سمع بإسم هشام قبل ذلك الوقت ، نظر في وجه إبنته مستفسرا فأخبرته بأن هشام هو الإسم الحقيقي لوحيد .

عادت صابرين ووالدها إلى قاعة الإنتظار حيث كان وحيد غارقا في صمت رهيب ، سألاه من جديد على علاقته بما حدث فأكد لوالد صابرين بأنه لم يسبق له أن راى زوجته أو إلتقى بها ، إزدادت الشكوك من حوله ولم يقتنع أحد بكلامه ، تقاطرت عليه نظراتهما الغريبة كالسهام مما دفعه للإنسحاب من قاعة الإنتظار.، لحقت به صابرين الى الخارج ودار بينهما حديث طويلا فأكد لها من جديد عجزه عن فهم ما حدث لأمها ، كان يحادثها في حزن وقطرات الدمع تتلألأ في عينيه مما أثار إنتباه صابرين، طلب منها الرجوع إلى قاعة الإنتظار وتوجه نحو باب المستشفى ، بدا لها وكأن صديقها يخفي عنها سرا غامضا لكنها لم تكن قادرة على فعل أي شيء .

خرج هشام من المستشفى وراح يمشي على الرصيف وهو لا يعلم أين تقوده قدماه.، لم يكن يشعر بأي شيء من حوله بدا وكانه غائب تماما عن الوعي ، إختلطت في ذهنه صورة أم صابرين ببعض الصور المشوشة من ماضيه الحزين ، عادت به ذاكرته وهو يمشي وحيدا في تلك الساعة المتأخرة من الليل إلى ذلك اليوم الذي إنسكب فيه إبريق شاي ساخن على صدره يوم كان صغيرا ، تذكر كيف كانت أمه تحمله بين ذراعيها وهي تصرخ طالبة النجدة ، إختلط صراخها الذي ظل يختزن في ذاكرته بصرخة أم صابرين وهي تتحسس بأصابعها تلك الندبات التي يحملها على صدره ثم تذكر ذلك الشعور الغريب الذي ألم به حين وقعت عينه في عين أم صابرين لأول مرة وما أعقبه من إحساس دافئ حين عانقته لتسلم عليه ، شعر بصداع شديد في رأسه وهو يسائل نفسه عن سبب إصرارها على رؤية ظهره وإلحاحها في معرفة إسمه وإسم والدته ومكان إزدياده وما علاقة كل ذلك بإنهيارها أمام عينيه .

اسلم هشام نفسه لسيل جارف من الأسئلة المحيرة التي لم يستطع أن يجد لها جوابا شافيا ، توقف فجأة عن المسير وإستدار خلفه ، نظر في إتجاه المستشفى الذي كان قد إختفى عن ناظره وقلبه يكاد يتوقف من شدة الخفقان ، إنهارت الدموع من عينيه وهو يسأل نفسه :

هل تكون أم صابرين هي أمي التي غابت عني منذ زمن طويل؟ .

سارع بالعودة الى المستشفى وهو يمسح الدموع من عينيه ، توجه مباشرة نحو الغرفة التي كانت ترقد فيها أم صابرين ، تلك الغرفة التي هيأتها الظروف والأقدار لتجمع بين هشام وأمه بعد ما يزيد عن عشرين سنة من الفراق.

تاريخ النشر: 03-03-2020 م