من صميم سيرة ذاتية يونيو الأسود بعين بني مطهر في ظل سنوات الرصاص ( الجزء التاني )


من صميم سيرة ذاتية يونيو الأسود بعين بني مطهر في ظل سنوات الرصاص

المصدر : رمضان بنسعدون

كان الحي يُبنى رويداً رويداً و يتزايد السكان بعد أن كانت الخيام تعُج بالمكان كنت أقطع ثلاث شِعاب روافد هضبة الكارة و أمر على محمد بلحبيب ( الشون ) كان يدرس بقسم الخامس بعد أن تحضر لي أُمي الفطور تحت جُنح الظلام عقب آذان الفجر فنطلع ما كُنا نُسميه ( الراڭب ) فنهبِط إلى وسط القرية ( الفيلاج ) ثم نصل إلى المدرسة و قد إنفلق الصبح فندخل لأقسامنا كنت أدرس بقسم التحضيري لدى المعلم مجدوبي بوعزة رحمه الله و قد أجلسني بجانب ملال إبن حارس المياه و الغابات آنذاك و تملكني الخوف كونه كان أبلها ..

و أتذكر أن أبي كل نهاية أسبوع كان يرافقني معه للملعب لمشاهدة مباريات أشبال الظهراء لكرة القدم في النصف الأول من عشرية سبعينيات القرن المنفلت ، شاهدت بأم عيني أحداث لقاء أشبال الظهراء /البريد الوجدي الذي عوقب عليه نادي الأشبال بالإيقاف من الممارسة لمدة 10 سنوات يحكي بعض اللاعبين الذين جايلوا المرحلة أن عصبة الشرق ظلمتهم و في المساء حينما أغادر الفصل الدراسي أمر على أبي فأجده يبيع الآلات المستعملة و الخزانات و الأفرشة في المزاد العلني حيث أنه كان بارعا فيها و يأمرني بأن أدفع الكرسي المتحرك الذي كان يجلس عليه الشيخ الطاعن في السن أب ( الشون ) لأُوصله لمنزله الذي لا يبعد عن منزلنا ببضعة أمتار ..

كانت والدتي تجمع الحطب بما كنا نسميها الهضبة السابعة أين سقطت طائرة أمريكية في العام 1944 لتجلبه من هناك على ظهرِها بمعية جدتي لتطهي به القدور الراسيات على النار .. كنا صباح مساء نمر على بيتين من خشب لامرأة كانت تسمى الزانة و أخرى للسكري و غير بعيد عنهما مطرح لأزبال المدينة كان ينقل عبر عربة مجرورة بدابة كان يقودها بن الدين يحوط بها قبل إفراغها الأطفال للبحث عن بقايا أشياء بركان الأوساخ يقع بين حي الفيضان ، سمي بهذا الإسم إثر الفيضانات المهولة عام 1975 التي ضربت عين بني مطهر لتجعل منها مياه أمسخسخة الطوفانية منطقة منكوبة

فأتت حينها الإمدادات من المساعدة عبر الهليكوبتر بنصب خيام للمتضررين الذين إنهارت دورهم لكن بنيت دور للمساكين المجانبة حاليا لحي أمل 1 فجعلت منها قروية بني مطهر دورا للكراء و بيعت عقب ذلك فحُرم منها مستحقوها .. عين بني مطهر بلدة تعرف بالمتناقضات ، كنا ثلة من الصبيان نلْهو بمنأى عن منازلنا خلال نهاية الأسبوع عند قدم سفح هضبة الڭارة نلهو في تمثيلية إقتبسناها من فيلم سيف بن ذي يزن الذي تفرجنا عليه خلال رمضان و نجسدها على أرض الواقع بسيوف من عيدان الأشجار و كانت تغرينا سميرة توفيق ذات الخال على خدها بأغنيتها الشهيرة " قهوة نشا موهب تسكب على الفنجان.. " ،

أنزل علينا أحد أترابنا خبراً كالصاعقة ذبح كريم إبن الزبير مدير مدرسة عبد الواحد المراكشي و إبن أخ المناضل عمر بنجلون كالشاة بِبَيت مهجورة بالغابة المحاذية للمدرسة ، جريمة نكراء هزت أركان البلدة ففرضت مصالح الشرطة شبه حالة طوارئ ، فقامت بعملية تمشيط واسعة النطاق عقب مواراة الضحية الثرى بإلقاء القبض على أي مشتبه به فعم الخوف داخل الأوساط و شهد مخفر الشرطة ممارسة تعذيب وحشي على نزلائه في إنتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان بغرض إنتزاع إعترافات ، فمن بين هؤلاء الذين مورس في حقهم التنكيل ، من فقد تلابيب عقله و هناك من جُنَّ إلى يومنا هذا و هناك من هجر القرية عقب إخلاء سبيله إلى الأبد ..

لكن بالرغم من ذلك لم يظهر بين هؤلاء أي جاني و عقب عام ظهرت الحقيقة فنال الجناة عقابهم الدنيوي .. في ذات العام تعرض عم الشهيد كريم ، عمر بنجلون للإغتيال بضربة مطرقة من قبل إسكافي وقع الحدث فقط أيام قليلة بعد المؤتمر الإستثنائي لتنظيم الإتحاد الإشتراكي 1975 الذي برع فيه الرمز و الكاريزما عمر ، كانتا فاجعتين فظيعتين .. و وسط القرية .. أتذكر اكتتاب المواطنين للمشاركة في مسيرة فتح المظفرة لإسترجاع الأقاليم الجنوبية فعمت الفرحة أرجاء الوطن من طنجة إلى لڭويرة عقب خطاب أعلن فيه العبقرية الفذة الحسن الثاني مشاركة 350000 مغربي في مسيرة فتح المظفرة

كمعجزة للقرن لمعانقة تربة من أرضنا ، كانت رغبتنا في المشاركة رغماً عن صغرنا ، كم أشغفت وجداننا و أججت مشاعرنا الوطنية أغاني ( لعيون عينيا ـ و نداء الحسن ) فإزداد حماسنا غلياناً .. و لم يكن النقل التلفزي للتظاهرات الرياضية من أماكن نائية كما هو الحال اليوم ، كنا صغاراً نلهث وراء الأخبار الرياضية عبر المذياع ، الحياة الرياضية التي كان يشرف عليها المرحوم المذيع المرموق نور الدين أڭديرة الذي برع في الوصف الرياضي بشكل راقي ، و قد شاهدنا أنذاك النخبة الوطنية المظفرة بكاس إفريقيا 1976 بإثيويبا فقط على ملصقات الجدران ، كنا ندرس أنذاك في قسم المتوسط ، لم نكن نعلم أن الإنتخابات تفعل في البشر ما فعلته إستحقاقات 1976 الجماعية بساكنة عين بني مطهر

شهدت خلالها في مغربنا المستقل ، أحداث رهيبة ، تلك التي دارت رحاها بساحة البريد المحاذية لمقر قيادة عين بني مطهر ، احتشد في إعتصام مفتوح عارم أزيد من 200 رجل من مناصري المرشح الإستقلالي ( الميلود ) المختطف من طرف خصومه قبيل إجراء الإستحقاقات في يونيو 1976 دام قرابة أسبوع مُطالبين بعودة مرشحهم ، إلا أن إحتجاجاتهم ذهبت أدراج الرياح و في ظل عدم إستجابة لا المختطفين و لا السلطة المحلية التي لم تفتح حواراً مقنعا مع المعتصمين الإستقلاليين ، و في تزامن مع خروجنا من الفصول الدراسية عشية حوالي الرابعة مساء ـ

إندلعت مواجهات عنيفة و ضارية بين المتاظهرين و السلطة في شخص القائد " لعروسي " أنذاك حاولت القوات العمومية قمع المتظاهرين أول الأمر برمي قنابل مسيلة للدموع بهدف ترهيبهم و تفريقهم لم يكترث لها هؤلاء المعتصمين فقاموا برشق القيادة التي كانت محاطة بالقوات العمومية من شرطة و مخزن بالحجارة ـ فبادلوهم بإطلاق أعيرة نارية من بنادق ( ماس 36 ) سقط على إثرها بحسب ما ذكرته مصادر مطلعة 3 قتلى و أصيب كثيرون بجروح من الإستقلاليين الذين كان يتزعمهم المرحوم عبد الكريم بطيب عضو حزب الإستقلال و كاتب فرعه شهدت بلدة عين بني مطهر ليلة بيروتية بإمتياز و كأن عدوى الحرب الأهلية بلبنان تدحرجت كرة ثلجها لتصل عين بني مطهر

تلك الأمسية الرهيبة ، شهدت أزقة و شوارع البلدة حالة إستنفار قُصوى ، هرولة ، كر و فر و نحيب النساء و الفتيات و الطفال الصغار و الشيوخ و فرار المواطنين الذين باتوا في حيرة من أمرهم و هم يلتحقون بمنازلهم في حالة ذعر و هلع تحت هول الصدمة و تحت لعلعة الرصاص عشوائيا الذي دوى في كل مكان يصل صداه إلى تخوم الفقرة .. كان المخزن يرمي الرصاص بأسلوب عشوائي و قد إختلج الرعب النفوس ، في تلك اللحظة عند إندلاع شرارة الرصاص ، مُتَأَبِّطاً مِحفظتي ، أسابق الريح و الزمن صوب حي الفيضان سالكا الطريق المؤدية للمحكمة مُرورا بمطرح النفايات الذي هو حاليا حي أحد صاعدا التلة ( الراڭب ) الذي كان يبدو لي كؤوداً و الرصاص يمر فوق رأسي رنينه يمزق كبِدي

و لدى وصولي مُنهكا جسديا و نفسيا إمتدت يَدي إلى المذياع من نوع كتبية ، ليصل لأسماعي من مذيع الأخبار الجزائرية في قصاصة خبرية إستثنائية مفادها " إطلاق أعيرة نارية على متظاهرين بعين بني مطهر أسفر عن مصرع ثلاث مواطنين في إشتباك بين معتصمين من حزب الإستقلال بعد رشقهم عناصر القوات العمومية بالحجارة على خلفية إنتخابات جماعية ...... " باتت عين بني مطهر غداة أحداث الرصاص ، تعيش حالة طوارئ قُصوى ، فأصبحت قوات الشرطة و المخزن منتشرة في كل أنحاء البلدة ، قوات السيمي تتنقل بين الدروب فارضة حظر التجوال

و تقوم بتفتيش منازل الإستقلاليين لمصادرة أسلحة و بنادق الصيد منهم و فر البعض من الإستقلاليين إلى الجزائر .. الصمت و الخوف يخيم على البلدة قرابة أسبوع و بعد ذلك إستدعي كل أعيان البلدة ، بنعيسى مجدوبي ، الحاج أحمد الفرح ، عبد الكريم بنطيب و غيرهم و السلطة المحلية و في العام 1978 و أنا أمام باب سيدي عبد الوهاب بوجدة لفَت إنتباهي عنوان عريض على واجهة جريدة العلم " ضحايا الإستقلاليين بعين بني مطهر " تحكي الفاجعة التي شهدَها يونيو الأسود بها حينما إنتقلت للدراسة بثانوية البكري بوجدة ..

من صميم سيرة ذاتية يونيو الأسود بعين بني مطهر في ظل سنوات الرصاص

تاريخ النشر: 27-10-2018 م